عاجل

راديو اينوما

خُذوا العِبرة من اليونان… قبل إقرار الموازنة!

13-05-2019

محليات

تتكرّر مأساتنا وتتعاظم مشكلاتنا لأننا شعب جاهل لم نُحسن إختيار قادة سفينتنا منذ زمن بعيد، ولأنّ التعصّب الطائفي والمذهبي أعمى قلوبنا وعقولنا فاتجهنا نحو الهاوية بملء إرادتنا ونحن نصفّق إبتهاجاً لعنتريّات ووعود زعمائنا.

ما يصيب بلدنا اليوم، هو شبيه جداً بما أصاب اليونان. وقد إستشعر الرئيس سعد الحريري هذا الخطر “متأخّراً” كثيراً وأطلق تحذيراً مدوّياً، ولكنّ معظم المسؤولين طمروا رؤوسهم في الرمال وراحوا يتقاذفون المسؤولية ويلقون تهم العجز والهدر والفساد على الأفرقاء الآخرين.

لم يتحرّك المسؤولون في اليونان، إلّا عندما وصل العجز في الموازنة إلى %13. حينها، أدركوا أنّ سياساتهم الإقتصادية والإجتماعية في العقود الثلاثة الأخيرة أوصلتهم إلى حافة هاوية الإفلاس. هكذا فعل المسؤولون عندنا، وانتظروا من دون وعي ولا مسؤولية إلى حين بلغ العجز %11.5 ومن دون إحتساب مستحقّات المتعهّدين والمستشفيات وأموال الضمان الإجتماعي وغيرها.

فالأسباب التي أوصلت اليونان إلى شفير الإفلاس، هي نفسها تقريباً التي أوصلتنا إلى الهاوية: إستشراء الفساد السياسي والقضائي والإداري. ضلوع كبار رجال الطبقة السياسية الحاكمة في خدمة مصالحهم المالية. التهرّب الضريبي، وعجز الدولة في جمع الضرائب. إرتفاع الفائدة على الدين العام. ضعف البنية التحتية. سوء إدارة موازنات الدولة والفساد المتعدّد الأبعاد، من رشوة وتهرّب ضريبي، وعمولات غير مشروعة، وارتفاع عدد الموظفين في القطاع العام، وانخفاض الإنتاجية. الإرتفاع القياسي في نسبة البطالة. إزدياد عدد المتقاعدين. وضعف مستوى التنسيق بين مؤسّسات الدولة ووزاراتها…

إنها الأسباب نفسها التي جعلتنا نصل إلى شفير الإفلاس، ونضيف عليها عاملاً آخر أساسياً، هو الفشل الذريع والهدر المخزي في ملفّ الكهرباء، الذي كلّفنا ما يقارب 36 مليار دولار، ولم نزل من دون كهرباء.

لقد بدأت الأزمة اليونانية، مع إنتشار المخاوف بين المستثمرين حول عدم قدرة اليونان على الوفاء بديونها نتيجة الزيادة الحادّة لحجم الدين العام، وقد أدّى ذلك إلى أزمة ثقة في الأسواق المالية إتضحت بارتفاع الفائدة على السندات اليونانية. ومع تزايد حجم الدين العام وارتفاع عجز الموازنة، واجه الإقتصاد اليوناني ضعفاً في النموّ ما صعّب من قدرة الدولة للحصول على قروض جديدة لتسديد ديونها السابقة.

 

وهذا تماماً ما نحن واقعون فيه، إذ أضعنا الثقة بقدرتنا على معالجة المشكلات البنيوية في إقتصادنا وماليتنا، وضربنا عرض الحائط بتحذيرات المؤسّسات الدولية، فتوقّف الدائنون والدول المانحة عن تلبية طلباتنا ومساعدتنا.

لم تخرج اليونان من أزمتها إلّا بعدما قامت بسلسلة إصلاحات في الإدارة وفي محاربة الفساد، وبعدما وافق البرلمان اليوناني على سلّة شروط قاسية فرضتها مجموعة الدائنين الدوليين، حاول البرلمان تجنّب إقرارها لوقت طويل.

لم يبادر الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في مساعدة اليونان، إلّا بعدما تأكّدا أنّ الإجراءات الإصلاحية التي إتخذتها الحكومة جدّية وقادرة على كبح جماح عجز الموازنة، والتي إستهدفت وقف الهدر والفساد والتوظيفات السياسية، وخفض إجمالي النفقات العامة، على الأجور والرواتب من %1 إلى %5.5، وتقليص مكافآت العمل الإضافي والتقاعد وبدلات السفر، ورفع الضرائب على القيمة المضافة وعلى السيارات المستوردة والمحروقات.

لم يتجاوب الشعب اليوناني مع الإجراءات الحكومية إلاّ بعدما تأكّد أنّ أموال الخزينة محفوظة في أيدي أمينة، وأنّ درج الفساد قد بدأ شطفه من فوق، وأنّ موازنة الدولة تُقَرّ في موعدها بشفافية مُطلقة مع قطع الحساب.

إنّ المشكلة الأساسية التي يعاني منها وطننا، هي عدم ثقة الشعب بحكّامه، وعدم إقتناعهم بجدوى الحلول التي يقترحونها لإنقاذ البلد والإقتصاد. وخير دليل على ذلك، هو الموازنة التي وضعتها الدولة عام 2018 والتي زادت العجز %3 بدلاً من خفضه، وعدم تقديم قطع الحساب. فالعمل الصحيح والجدّي، ليس فقط في الموازنة العامة للدولة، وإنما في الحساب الختامي الذي هو المحكّ الرئيسي لتنفيذ إلتزامات الدولة كما أُقرَّت في البرلمان.

واللافت في مشروع موازنة عام 2019 هو أسلوب تأجيل المشكلة بدلاً من معالجتها، لأنّ البنود الإصلاحية فيها متواضعة جداً ولا تلامس جوهر المشكلة. فالموازنة العامة للدولة ليست مجرّد بيان يتضمّن الإيرادات العامة والنفقات العامة فحسب، وإنما هي أيضاً الأداة الرئيسة التي يمكن من طريقها تحقيق مجموعة من الأهداف، أهمّها: المساعدة في ترشيد الإنفاق الحكومي. والمساعدة في تحقيق التنمية الإقتصادية. والمساعدة في تحقيق العدالة الإجتماعية.

 

لذلك، فالمشكلة الإقتصادية والمالية لا تحلّ إذا خفّضت المصارف الفائدة على الدين العام، ولا في زيادة الضريبة على فوائد المودعين، ولا في إقتطاع بعض تعويضات التقاعد.. المشكلة أكبر وأعمق بكثير من كل الإجراءات الملحوظة في مشروع الموازنة، وتتطلّب قبل كل شيء مصارحة الشعب بالواقع المأساوي الذي وصلنا إليه بشفافية وصدق، وتطبيق خطة “ماكنزي” وإصلاحات “سيدر” والتخلّي عن “الأنا” والإبتعاد عن “الشعبوية” الرخيصة، واتخاذ قرارات جريئة وشجاعة يتوافق عليها رؤساء الجمهورية والمجلس والحكومة وزعماء الأحزاب قبل فوات الأوان، لأننا جميعاً في سفينة توشك أن تغرق، ولا بدّ من أن يتخلّى كل واحد منّا على جزء بسيط ممّا يحمل أو “يملك” كي لا يكون مصيرنا الغرق.

This website is powered by NewsYa, a News and Media
Publishing Solution By OSITCOM

Copyrights © 2023 All Rights Reserved.