10-07-2019
محليات
منير الربيع
صحافي لبناني
على الرغم من الأوضاع الإقليمية والدولية التصعيدية والمتشنّجة، يرى جعجع آفاقاً كثيرة، بينما لبنان يستسلم للتناحر غير المجدي. مشدداً على أن الوضع صعب إلى درجة بعيدة، وعلى المسؤولين أن يكونوا على قدر من المسؤولية للإنكباب على معالجة الأوضاع، بدلاً من الغرق في البحث عن المكاسب بالصغائر والضغائن.
إنصاف الزمن
بقدر ما يؤلمه واقع البلد، بقدر ما يبدو الرجل مرتاحاً للمسار الذي تسلكه القوات اللبنانية. يعبّر عن ارتياح لأصداء أداء القوات ومواقفها في الشارع اللبناني، على صعيد وطني، وليس على صعيد مناطقي أو طائفي. يؤمن سمير جعجع بأن الزمن لا بد أن يكون منصفاً ولو بعد حين. ومهما تعرّض المرء للضغوط واشتدت حال الاختناق، لا بد من متنفّس في النهاية. ولذلك هو لا يفقد الأمل، يتمسك بصموده، وينتظر لحظة الحصاد.
تلقّت القوات اللبنانية في الفترة الأخيرة، خدمات كبيرة من أشد خصومها، فعلى الرغم من محاولات النيل منها وإحراجها، تأخذ القوات بالتوسع لدى مختلف شرائح المجتمع اللبناني، وحده الطرف الذي يوجه السهام نحوها، ويحاول نبش ماضيها، هو من يعرف أنها تغرف من صحنه، فيحاول قطع الطريق عليها، أو خنقها. لذلك، يحافظ سمير جعجع على هدوئه، يفضّل عدم النظر إلى تفاصيل الأمور، التي يحاول البعض استدراجه إليها. تهمّه النتيجة، التي تعزز وضعية القوات في البيئات غير المسيحية. وهذا مشهد أصبح ثابتاً لدى الطائفة السنية، والدرزية، وحتى لدى الطائفة الشيعية بأحزابها ومكوناتها المختلفة.
حقائق الإحصاءات
يتوغل جعجع في الحديث عن الاجتماع السياسي اللبناني. محبّ للتفكير بعمق، وللبحث بخلفيات تصورات الناس واتخاذ خياراتها. عندما تطالبه بضرورة النزول إلى بيروت، إلى وسط العاصمة وحيويتها بدلاً من معراب ومسافة الطريق الطويل إليها، يجيب سريعاً بأنه لا يحب حياة المدينة، ولا الضوضاء التي تمنعه من التفكير بينه وبين نفسه، والتفرغ لمتابعاته وقراءاته. قد يكون لذلك ارتباط وثيق بروحية الرجل، الذي اعتاد على “اليوغا” أو الرياضة الروحية، التي مارسها في سنوات سجنه. ففي هذا “العمق” يجد نفسه، ويجيب عن كل الأسئلة التي تطرح عليه أو يطرحها على نفسه.
يعتبر أن الناس في لبنان بهذه المرحلة، لا تتخذ خياراتها على أساس الأفكار، بل تتخذها بتأثير بسيكولوجي، على نحو ينجذبون إلى من يشبههم. وهنا يتكفّل الزمن في إظهار ما لا يمكن لأي جهد إظهاره أمامهم، في ظل حملات التحريض والتعتيم وتنظيم الحملات الممنهجة. وهذا ما حدث في حقبات متعددة
ما يقصده جعجع في هذا الكلام، هو أن عواطف الناس قد تستثار في مرحلة معينة، أو نتيجة خطاب معين، تكون تواقة لسماعه، ولو كان بعيداً عن التعقّل أو المنطق. لكنها في النهاية ستعود لتكتشف أن هذا الخطاب لم يلب لها طموحاتها. واضح ما يقصده الرجل، خصوصاً عندما تسأله عن خطابات “التحريض” المذهبية التي تنتهجها أطراف سياسية لبنانية. يبتسم، يفضّل عدم التعليق على ذلك، تاركاً الأمر للزمن. ولكن بعد إلحاح، يكرر قوله المعتاد: “ما بيصح إلا الصحيح”. ربما يستعين جعجع بجملته هذه، انطلاقاً من تجربة الانتخابات النيابية الأخيرة، التي أظهرت تمثيل القوات، والتي من المتوقع أن تتزايد في الانتخابات المقبلة، خصوصاً أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن القوات مسيحياً، تحظى وحدها، بما يوازي ما يحصل عليه “رئيس الجمهورية، العهد، التيار الوطني الحرّ، ورئيس التيار”. في منطق الإحصاءات هنا، يتم الفصل بين الرئيس وعهده، لأن أناساً يؤيدون شخص الرئيس، وآخرون يؤيدون العهد (أي رئيس الجمهورية أياً يكن) وآخرون يؤيدون التيار الوطني الحر، ولا يؤيدون رئيسه.
تخويف المسيحيين
تلك الأرقام أو الإحصاءات، لا بد من السؤال عن حقيقتها، في ظل الأجواء التي تشير إلى أن خطاب رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل يحظى بمقبولية واسعة في الشارع المسيحي؟ يجيب جعجع على السؤال الأول قائلاً: “كل التقديرات غير دقيقة، والأيام المقبلة ستشهد، خصوصاً أن من يدافع عن هذه المواقف تكون له أسبابه وغاياته، ولكن لدى المسيحيين، وفي وجدانهم، أساس ثابت لا يتزحزح، يتربط بالدولة وببنائها، وارتباطهم بالشخص يكون بقدر ما لهذا الشخص من مزايا تعزز مقومات الدولة”. يستطرد قائلاً: “لدى المسيحيين، تاريخياً، رجال من قماشة رجال الدولة الكبار، الذين يهتمون بالعمل وليس بالكلام، ولا يحبذون الفساد ولا الشبهة فيه وحوله، ولا يستسيغون كلام التحريض”.
لا يخاف سمير جعجع على المستقبل، ولا على المسيحيين، من يستحضر خطابات التخويف هو من يريد إخافتهم. وتلك المعارك الوهمية، يخترعها أصحابها بسبب أزمات يمرّون فيها، فيحتاجون إلى ما يستعيضون به لمواربة أزمتهم. ولا يخترع تلك المعارك إلا من يستشعر التهديد، أو يكون بحاجة معركة وهمية يريد من خلالها إثبات نفسه
هنا يتضح المسار الذي يتحدث فيه رئيس حزب القوات اللبنانية عن وجهة نظره قائلاً: “رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، يخوض معارك على جبهات عديدة، وهي ليست معركة واحدة تتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية. الرجل يريد إثبات نفسه داخل التيار الوطني الحر. فعلى الرغم من ترؤسه للتيار، لكنه لم يتمكن من شدّ ركائزه بعد، ولم يتمكّن من بناء نفسه فيه، فيرفع الصوت ويعلي الصراخ ليقول للجميع إنه موجود، على قاعدة محاولة إحراج الجميع. وأيضاً، يخوض معركة مع القوى المسيحية الأخرى، ليثبت نفسه في الشارع المسيحي، مستنداً على خطابه الشعبوي والمتشنج. وبالوقت نفسه، يخوض معركة مع القوى السياسية الأخرى التي لا تسلّم له بما يريد، فيسعى لإلغائها. وبعد هذه المعارك كلها، يأتي تفكيره بمعركة رئاسة الجمهورية”.
عمود فقري
ولكن أليس هناك ميزان قوى قد تغيّر في لبنان؟ وهذا الميزان يميل لصالح الطرف الآخر؟
هنا يجيب جعجع سريعاً، بأن المشكلة الأساسية في لبنان، هي بسبب عدم وجود عمود فقري يقوم عليه الجسد اللبناني ويستمر. هذا العمود هو حلف “القوات اللبنانية”، “تيار المستقبل”، و”الحزب التقدمي الاشتراكي”، بالتنسيق مع مختلف القوى الأخرى طبعاً، بما فيها التيار الوطني الحرّ. وهذا ما يجب أن يعاد تعزيزه في المرحلة المقبلة، كي لا يخسر الجميع.
ويعود جعجع بالذاكرة إلى الأيام التي تلت انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون: “كان يجب أن يتم تحصين العهد، من خلال التنسيق بين مختلف القوى السياسية، لا أن يختار العهد طريق عزل نفسه بثنائيات أو ثلاثيات، حتّمت عليه الدخول في معارك لا طائل منها مع مختلف القوى السياسية”. معتبراً أنه “كان لا بد من الحفاظ على التحالف الثلاثي بين الاشتراكي والمستقبل والقوات، لأن هذا التحالف وحده قادر على دوزنة الميزان”. ولكن هل عاد التنسيق لإعادة إحياء التحالف بعد ما حصل في الفترة الأخيرة؟ يقول: “أصبح الوضع أفضل من الأول بكثير، وكل المساعي والمحاولات مستمرة.”
جريمة تعطيل الحكومة
يخاف جعجع على الوضع الاقتصادي والمالي، ويقول إن المعارك السياسية المخترَعة في هذه المرحلة لا تجدي، لأن العهد قد يخسر نفسه. تسأله كيف تقيّم العهد؟ يجيبك: “نحن لا نقيّم الأرقام. والأوضاع هي التي تقيّم. ولكن الوضع صعب وبحاجة إلى معالجة جدية وسريعة”. ولا يخفي أن العهد نجح في إعادة التوازن للكثير من الأمور، على رأسها قانون الانتخاب مثلاً. لكن وضعنا لا يحسد في القضاء، ولا في غيره من المؤسسات، التي تعتبر عماد الدولة وقوامها. ويعتبر جعجع أنه من غير المقبول تعطيل عمل الحكومة، لأن لبنان بحاجة إلى كل دقيقة عمل حكومي، قائلاً: “ما يجري حالياً، وأداء بعض الأطراف الحكومية هو جريمة بحق الوطن والمواطن. فمن غير المقبول تعطيل عمل الحكومة، خصوصاً أن ما يحصل هو لأسباب سياسية ضيقة. واستخدام الثلث المعطّل أمر غير منطقي ولا وطني. والدستور أعطى حق التعطيل لثلث الحكومة في القضايا الكبيرة، وليس لمصالح ومآرب سياسية، لأشخاص”.
ولكن ألا تعتبر ما جرى في الجبل هو مسألة كبيرة؟ يجيب مؤكداً بأنها كبيرة وتحتاج إلى معالجة، ولكن ليس من أجل تصفية الحسابات السياسية، ولا المتاجرة بالأمن، لتحقيق أهداف سياسية أصبحت معروفة. هنا، يستعيد تجربة سيدة النجاة، والفبركة التي تعرّض لها ملفّه. يضحك كيف أن ما يجري اليوم، كان قد اختبره سابقاً. واليوم، فإن الحزب التقدمي الاشتراكي يعلن أن طرح المجلس العدلي يشبه ملف سيدة النجاة. بالتأكيد، يحمّل جعجع مسؤولية ما حصل لكل الأفرقاء الذين شاركوا.
ولكن ألا تعتبر أن ما حصل هو بسبب الخطاب الاستفزازي؟ أو هل تعتبر أن ما حكي كان خطاباً استفزازياً؟ يقول: “هناك خطاب في غير محلّه، وعلى الرجل السياسي أن يعرف كيف يقول كلمته وأين ومتى”. ما هو موقف القوات لجهة إحالة الملف إلى المجلس العدلي؟ يجيب بأن الأمور تحتاج إلى روية، “ولا يمكن الحديث بالأمر قبل نهاية التحقيقات، وإلا يتثبّت أن الغاية من ذلك سياسية”. مؤكداً: “نحن حلفاء للحزب التقدمي الاشتراكي ونقف إلى جانبه، وإلى جانب مصالحة الجبل”.
من لبنان إلى اليمن
في اليوميات السياسية، والخلافات بين مختلف القوى، خصوصاً ما حدث قبل فترة حول الصراع على الصلاحيات، يعتبر جعجع أن ما يجري لا يضعه في خانة الاعتداء على صلاحيات رئيس الحكومة فقط، بل يأخذه إلى اتجاه أوسع قائلاً: “ما يجري هو تعديات على صلاحياتنا كلنا، وعلى مصالح اللبنانيين وكل مواطن في هذا البلد، من تعطيل الحكومة إلى غيرها من الممارسات”. وهنا يتوجه جعجع إلى رئيس الحكومة سعد الحريري قائلاً: “الحزم في بعض الأوقات دواء”. أما إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، فيتوجه له جعجع بالقول: “أنقذ عهدك قبل فوات الأوان”. ويضيف بوضوح أنه أحياناً لا يمكن التمييز بين مواقف عون ومواقف باسيل.
في الوضع الإقليمي، يعتقد جعجع أن التصعيد ماض من قبل الأميركيين تجاه إيران. وهم قد وجدوا سلاحاً أكثر فعالية من الحروب العسكرية، وبلا خسائر. وهو منطق العقوبات الاقتصادية. ويظن أن إيران تستعجل في البحث عن مفاوضات. وهذا دليل على اشتداد العقوبات عليها، وجدية هذه العقوبات التي دفعتها إلى تنفيذ عمليات عديدة ومتنقلة، لأنها لم تعد تحتمل. وبالمقابل لا يمكن للأميركيين أن يتراجعوا. مشدداً على أنهم لا يعملون إلا وفق مصالحهم. والآن، يجدون مصلحتهم في هذا الخيار التصعيدي والتشددي ضد إيران، الذي سيؤدي في النهاية بطهران إلى تقديم التنازلات. ومن بين الساحات الأساسية المطروحة لتقديم التنازل هي اليمن ولبنان، إذ يحتلان سلّم الأولويات.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
104 سنوات على لبنان الكبير: وعد غير محقق