31-07-2025
مقالات مختارة
|
اينوما
انطوان العويط
<p>كاتب</p>
أنطوان العويط
لا يحتاجُ لُبنانُ إلى مؤشِّراتٍ إضافيّةٍ ليُدرِكَ أنّه باتَ على شفيرِ القَرارِ المَصيريّ. الدّاخلُ مُختنِقٌ باستعصاءٍ قاتلٍ، والخارِجُ يَغلي بإشاراتٍ تُنذِرُ بانفجارٍ وشيكٍ. بينَ انتِهاكاتِ إسرائيل، وضُغوطِ واشنطن، وامتِعاضِ باريسَ والرِّياض، ومُهلةِ "آب ـ تشرين" التي تَرتَسِمُ كسَيفٍ زمنيٍّ مُعلَّقٍ فوقَ رُؤوسِ الجميعِ، يَدخُلُ لُبنانُ لحظةَ الحَقيقَةِ. زَمَنُ التردُّدِ والمُناوَرةِ انْتَهى، ومَرحلةُ كَسبِ الوقتِ استُهلِكَتْ بالكامِلِ.
الرّسائلُ الأميركيّةُ لم تكنْ يومًا بهذا الحسمِ. طوم بارّاك، الموفدُ غيرُ المفاوِضِ، لم يأتِ ليقترحَ، بل ليُبلِغَ. مهمّتُه أقربُ إلى إنذارٍ نهائيٍّ: حصرُ السّلاحِ بيدِ الدولةِ، ضمنَ مهلةٍ محدّدةٍ، وإلّا فإنّ الخياراتِ المُرّةَ مطروحةٌ بلا مواربةٍ. لا وعودَ، لا وساطاتَ، لا ضغوطَ على إسرائيل. وحدَها بيروتُ هي المعنيّةُ بالتّنفيذِ، ووحدَها تتحمّلُ المسؤوليّةَ إنْ تلكّأتْ.
الموقفُ الذي كان أبلغهُ لبنانُ الرّسميُّ إلى بارّاك تمحورَ حولَ وقفٍ فوريٍّ للأعمالِ العدائيّةِ الإسرائيليّةِ في الجوّ والبرّ والبحر، بما في ذلك الاغتيالات، وانسحابٍ إسرائيليٍّ خلفَ الحدودِ المعترفِ بها دوليًّا، وإطلاقِ سراحِ الأسرى، وسحبِ سلاحِ جميعِ القوى المسلّحة، ومن ضمنها حزبُ الله، وتسليمِه إلى الجيش، وتأمينِ مبلغٍ يَبلُغُ مليارَ دولارٍ أميركيٍّ سنويًّا لمدّةِ عشرِ سنواتٍ من الدولِ الصديقةِ، لدعمِ الجيشِ والقوّاتِ الأمنيّةِ وتعزيزِ قدراتِها، وإقامةِ مؤتمرٍ دوليٍّ للجهاتِ المانحةِ لإعادةِ إعمارِ لبنانَ في الخريف، وحلِّ مسألةِ النازحينَ السوريّين، ومكافحةِ التهريبِ والمخدراتِ، ودعمِ الزّراعاتِ والصناعاتِ البديلة، مع تحديدِ مراحلِ تنفيذِ هذه المحاور بشكلٍ متوازٍ.
في المُقابِلِ، تبقى إسرائيلُ هي إسرائيل، على ما هي عليه. أمّا الحزبُ، وإلى البارحة، لم يُبدِ أيَّ استعدادٍ لتليينِ مَوقِفِه. رَفَضَ تقديمَ أيِّ خُطواتٍ أو تنازُلاتٍ، ولو رمزيّةً أو ظرفيّةً، في ما يتعلّقُ بسَحبِ السِّلاحِ، لا تجاهَ الدّولةِ، ولا في حقِّ الشَّعبِ اللّبنانيّ، ولا حتّى أمامَ المُجتمعِ الدّوليّ. وبدلًا من أن يَغتنِمَ اللّحظةَ لتحصينِ الدّولةِ و"تَعويمِها" بما يدعمُ مَوقِفَها ويُخفِّفُ عنها الضّغطَ الأميركيَّ ويَكبحُ النّزفَ في رصيدِها، اختارَ أن يُضاعِفَ التَّصعيدَ، وكأنّهُ يتهيّأُ، لا لتسويةٍ مُحتملةٍ، بل لحربٍ وشيكةٍ.
وسطَ هذا الاشتباكِ المُقفَلِ، حاولَ الرّئيسُ نبيه برّي إحداثَ خرقٍ. اقترحَ هدنةً اختباريّةً، تمتدُّ لأسبوعينِ أو أكثرَ، تتوقّفُ خلالها الأعمالُ العدائيّةُ من قِبَلِ إسرائيل، تمهيدًا لفتحِ بابِ النّقاشِ حولَ السّلاحِ. المبادرةُ سقطتْ في مهدِها. بارّاك لم يمنحْ أيَّ التزامٍ. بالعكسِ، ذكّرَ بأنّ لبنانَ ليسَ في موقعٍ يُملي فيه الشّروطَ، بل عليهِ أنْ يُثبتَ جدّيّتَهُ أوّلًا.
أكثرَ من ذلك، بارّاك ذهبَ بعيدًا في تحميلِ التّبعةِ ووزرِ الفشلِ، وتغريدتُهُ العلنيّةُ تضمّنتْ ما يُشبهُ التّوبيخَ للدولةِ اللبنانيّةِ: كثيرٌ من الأقوالِ، ولا فعلٌ واحدٌ يُعتدُّ به.
إلى جانبِ واشنطن، عبّرتْ باريسُ عن استيائِها ولم تُخفِ خيبةَ أملِها. الرّئيسُ ماكرون، في لقائهِ مع الرّئيسِ نواف سلام، عبّرَ بوضوحٍ عن استيائِه من تلكّؤِ السّلطةِ في التّعاطي مع ملفّ السّلاح، وتباطُئِها في تنفيذِ الإصلاحاتِ. الزّمنُ ينفدُ، والدّعمُ الدّوليُّ ليسَ شيكًا على بياضٍ. لبنانُ باتَ في نظرِ كثيرينَ دولةً عاجزةً... أو فاشلةً. والسّعوديّةُ، من جهتها، أبلغتْ عبر قنواتِها امتعاضًا مشابهًا. فالمجتمعُ الدوليُّ، وإنْ تعدّدتْ واجهاتُهُ، باتَ يُجمعُ على نقطةٍ واحدةٍ: إمّا أنْ تتحرّكَ الدولةُ اللبنانيّةُ بقرارٍ واضحٍ، وإمّا أنْ تُترَكَ لمصيرِها المحتومِ.
وسطَ هذا كلِّه، برزت كلمةٌ مفصليّةٌ لرئيسِ الجمهوريّةِ، العمادِ جوزاف عون، بمُناسبةِ عيدِ الجيشِ، دعا خلالها إلى "قَرارٍ تاريخيٍّ يَقضي بتفويضِ جَيشِنا الوطنيّ وحدَهُ حَملَ السِّلاحِ عنّا جميعًا، وحِمايةِ الحُدودِ عنّا جميعًا... فالعيدُ لن يَكتَمِلَ إلّا باكتمالِ التّحريرِ، وإنجازِ التّرسيمِ، وبحَصريّةِ السِّلاحِ، والمُباشَرةِ بالإعمارِ، ليتصالَحَ لُبنانُ معَ دَورِه ورِسالَتِه".
جاءَ موقفُ الرئيسِ وطنيًّا صافيًا، وعلى قَدْرٍ رفيعٍ من الوضوحِ والمَسؤوليّةِ تجاهَ واقعٍ خطيرٍ، اختَصرَهُ بالقولِ: "علينا اليومَ أن نختارَ: إمّا الانهيارُ أو الاستقرار. وأنا اخترتُ العُبورَ نحوَ مُستقبلٍ أفضل، ولن نُفرِّطَ بفُرصةٍ لإنقاذِ لُبنان، ولن نَتَهاوَنَ معَ مَن لا يُعنيهِ إنقاذٌ، ولا يَهمُّهُ وَطن".
ناشَدَ الرئيسُ العَملَ لوقفِ "الموتِ على أرضِنا، والدّمارِ والانتحارِ، خصوصًا حين تُصبِحُ الحروبُ عبثيّةً، ومجّانيّةً، ومُستدامةً لمَصالحِ الآخرين"، مُشيرًا إلى "واجِبِ الأفرقاءِ السياسيّينَ كافّةً اقتِناصَ الفُرصَةِ التاريخيّةِ، والدّفعِ من دونِ تردُّدٍ للتّأكيدِ على حَصريّةِ السِّلاحِ بِيَدِ الجيشِ والقُوى الأمنيّةِ دونَ سِواها، على كُلِّ الأراضي اللّبنانيّة، اليومَ قبلَ الغدِ، حتّى نَستعيدَ ثِقةَ العالَمِ بِنَا". وشدَّدَ على "مُقاربةِ قضيّةِ حَصرِ السِّلاحِ بكُلِّ مَسؤوليّةٍ، كما عَهِدَكم لُبنانُ عندَ الاستحقاقاتِ المُهمّة، فالمرحلةُ مَصيريّةٌ، ولا تَحتملُ استفزازاتٍ مِن أيِّ جهةٍ كانت، ولا مُزايداتٍ تَضُرُّ ولا تَنفَع، والخطرُ لن يَطالَ فِئةً دونَ أُخرى..."وجاهَرَ بأنَّ "لُبنانَ تَعبَ من حُروبِ الآخَرين، ومن الرّهاناتِ والمُغامَراتِ على أرضِه، وحانَ الوقتُ لوَضعِ حدٍّ لأطماعِ أعدائِنا"، توجَّهَ إلى المؤسّسةِ العسكريّةِ بالقولِ: "كُنْ، أيّها الجيشُ، على أُهبةِ الاستعدادِ للدّفاعِ عن لُبنان، ولا أنتظرُ من المُكوِّناتِ السياسيّةِ في مجلسَي النّوّابِ والوزراءِ إلّا الاصطِفافَ خَلفَك في مُهمّتِك التّاريخيّة".
هكذا، هيَّأَ المناخَ السياسيَّ ومَهَّدَ الأجواءَ لوَضعِ ملفِّ السِّلاحِ على طاوِلَةِ مجلسِ الوزراءِ، والإسراعِ في إصدارِ قَرارٍ رسميٍّ من مَصدرِه الأُمّ، يُكرِّسُ احتِكارَ الدّولةِ وحدَها للسِّلاح، في ظِلِّ انقِسامٍ سياسيٍّ حادٍّ حَولَ كيفيّةِ نَقلِ هذه الحَصريّةِ إلى حيِّزِ التّنفيذِ ضمنَ مُهلةٍ مُحدَّدة. وهو ما يَضعُ الحكومةَ أمامَ أوّلِ اختبارٍ فِعليٍّ لِمَدى انسِجامِها وتَماسُكِها، وأيضًا لِجِدِّيَةِ مُقاربتِها هذا المِلفّ، تعزيزًا للموقِفِ اللّبنانيّ الرّسميّ، ورُبّما تَمهيدًا لتحييدِ الدّولةِ ومؤسّساتِها وبُناها التّحتيّةِ في حالِ اندِلاعِ حربٍ.
ويبقى السّؤالُ: ماذا تُريدُ بيروت؟ هل تُفضِّلُ البقاءَ في المنطقةِ الرماديّةِ، في موتٍ سريريٍّ مُوصوفٍ في الحدِّ الأدنى، أو التحوَّل إلى رُكامٍ تحتَ القصفِ في الحدِّ الأقصى؟ فمهلةُ "آب ـ تشرين" ليستْ مُهلةَ تفاوضٍ، بل مهلةَ قرارٍ. وحينَ يَبلُغُ الأمرُ هذا الحدَّ، لا تعودُ الخياراتُ كثيرةً، بل تَغدو مَحدودةً وخطيرة. ويُصبحُ التأخيرُ - كما قالَ الرئيسُ - نوعًا من الانتحارِ... لا البَطيءِ فحسْب، بل السّريعِ والمُزلزِلِ أيضًا.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
هل يخدم التمديد لقائد الجيش ترشيحه للرئاسة؟
أبرز الأخبار