مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

المكيافيلية بين السياسة والدين

05-11-2022

آفــاق

الدكتورة ميرنا داوود

أستاذة جامعية وكاتبة

الكاتبة: د.ميرنا داود

المكيافيلية مصطلح "سياسي , اجتماعي " يتجلى في استخدام كل الوسائل المتاحة؛ حتى تلك التي تعدّ غير إنسانية أو غير قانونية؛ من أجل الوصول إلى الأهداف والمناصب

جاءت هذه الكلمة من اسم الفيلسوف والكاتب السياسي الإيطالي، نيكولا مكيافيلي (1469 – 1527)، وهو صاحب الكتاب الشهير “الأمير”، والذي من خلاله أوصل رسائل إلى أهل السياسة عن أن “الغاية تبرر الوسيلة”، مهما كانت تلك الوسيلة منافية للأخلاق والقيم. أعتقد أن ما يؤخذ على فكر ميكافيلي السياسي هو انحيازه للحاكم أكثر من الوطن والشعب ،ويمكن تفسير ذلك على انه قد ألف كتابه الأمير في منفاه ،ليهديه إلى لورينزو دي مديتشي على أمل أن يعفو عنه .فالكتاب كان موجها بالأساس للحاكم ولمصلحته.

«  si mon travail, ne parvient point à me mériter la gloire, il ne doit pas non  plus m'attirer le mépris »

Nicolas Machiavel -Le Prince et autres textes p 14è

« Le Cardinal d' Amboise m'a dit que les Italiens ne comprenaient rien aux affaires de guerre,  je lui ai répondu que les Français n'entendaient rien aux affaires d'État »

«LE PRINCE; chapitre 3 »

نحن أمام فكر سياسي ، مرتبط بفلسفة سياسية جديدة، ومرتبط بتصور معين للدولة وللسلطة، وما يستتبعها من مفاهيم، كالحق والعدالة والسيادة والشعب، فمثلا لم يعد الشعب جمعا نمطيا ومتشابها من الغوغاء و"العامة"، ليس لهم حظ في الفضائل النظرية والعملية والمدنية، بل نحن أمام شعب له "شخصيته"، فهم يتصارعون وينقلبون ويثورون ويحبون ويكرهون ويخافون وفي كل هذا تظهر السياسة، كفن لتدبير كل هذه الاضطرابات، وتظهر أيضا القوانين والمؤسسات، فالقوانين كما يقول ميكيافيلي هي ثمرة هذه الاضطراباات..

في مقدمة كتاب "الأمير"، والتي وجهها "لورنزو دي ميتشي"، نجد هذا الأمر واضحا، حيث يقول : "في عالم الخرائط الطبيعية يضع الجغرافي نفسه في السهول ليرصد معالم الجبال والمرتفعات، ويضع نفسه على الجبال والمرتفعات ليرى السهول، وبالمثل فعالم السياسة، يجب أن يضع نفسه في الطبقات الشعبية ليفهم طبيعة الحكام، ومع الطبقة الحاكمة ليفهم طبيعة الشعب"، ومعنى هذا القول عند ميكيافيلي ، هو أن الحكام بحاجة الى الشعب، والشعب بحاجة الى الحكام.

بالرغم من أن ميكافيلي قد تحدث عن أن الأخلاق ليست ضرورية إن لم تحقق غاية الحاكم ، إلا أنه قد أكد أن الدولة القوية لا يمكنها الحفاظ على كيانها إلا على أساس أخلاقي ،واستشهدا بالأخلاق الرومانية القديمة .وفي سياق متصل، فإن ميكافيلي قد رأى بأن النظام الديمقراطي هو الأصلح ولكن بشرط أن يكون الشعب مستنيرا ،ومتمسكا بالأخلاق الفاضلة ،وأن تكون الدولة في حالة استقرار . ولكنه قد دعا في كتابه "الامير"إلى الحكم المطلق الأستبدادي ؛لأنه رأى أن الحكم المطلق أفضل الأساليب للتعامل مع واقع البلاد- المعاصر له- الذي لم تتوفر فيه شروط الديمقراطية .

ومن الأسباب التي أدت لظلم ميكافيلي أن البعض لم يفهمه ؛فقد تم نشر الكتاب بعد وفاته بخمسة أعوام،وحين نشر تم تحريم الإطلاع عليه ،ووضعت روما الكتاب عام 1559 ضمن الكتب الممنوعة ، وأحرقت جميع نسخه ، ولم يتم تقديم الكتاب مرة أخرى إلا مع دخول أوروبا عصر النهضة .

وفيما يتعلق بالدين فقد رأى ميكافيلي أنه إذا قضت الحاجة فإن الحاكم أحيانا يجب ان يساند دينا بعينه وإن كان يعتقد بفساده لأن الدين من وجهة نظر ميكافيلي “ضروري للحكومة ،لا لخدمة الفضيلة ، ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس ” .فالحاكم لكي يعمل على اكتساب الشهرة يجب أن يقوم بمشاريع عظيمة تحت ستار الدفاع عن الدين فالحاكم يجب أن يظهر بمظهر المتدين الفضيل -وإن كان عكس ذلك- لأن الناس بنظر ميكافيلي ” يحكمون بعيونهم ،فالكل يرى لكن الكل لا يشعر “.

هناك طريقتان للنضال "بحسب ماكيافيلي وهذا ما اثار حفيظة النقاد ضده وهاجموه بسبب المقطع التالي" :أحداهما تخضع للقوانين والأخرى باستخدام القوة، الأولى مناسبة للبشر والثانية للوحوش. و لكن بما أن الطريقة الأولى كثيراً ما تكون غير فعالة،  فيقتضى الأمر اللجوء إلى الثانية. وعلى الأمير أن يفهم جيداً كيف يستعمل كلتا الطريقتين: طريقة البشر وطريقة الوحوش وأن أكثر الأمراء حزماً، لا يمكنه ولا ينبغى له أن يحافظ على كلامه، عندما يكون فى المحافظة عليه ضرر له. ليست هذه مشورة طيبة عندما يكون جميع الناس من الأخيار , لكن بما أنهم خائنون ولا يثقون بك ، وجب عليك أنت بدورك ألا تثق بهم. وما من أمير حار فى التفكير فى أعذار مقبولة لتغطية عدم التمسك بوعده .. غير أن الناس يظلون ساذجين و محكومين بإحتياجاتهم الحالية، حتى أن من يرغب فى خداعهم لا يخفق فى العثور على (مغفلين) راغبين .. وهكذا من الخير التظاهر بالرحمة والثقة والإنسانية والتقوى والاستقامة ، ولكن يجب أن يبقى العقل متزناً وتعرف كيف تتحول إلى العكس بسرعة .. يرى كل شخص ما تظهر عليه، ويعرف القليلون ما أنت عليه..!!"

في العودة الى التاريخ القديم نجد بان أسهل الطرق لإحكام السيطرة على العقول كانت الحكم من خلال المقدس، الذي يختلف باختلاف الثقافات، حيث يقوم رجال الدين بدور قيادي في إحكام القبضة الحديدية، وذلك من أجل السيطرة على غرائز والسلوك البدائي للبشر، لكنها مع مرور تتحول تلك "السيطرة" إلى مكاسب ، ومنها تتغير أشكال السيطرة وأنماطها، وتتشكل بسبب ذلك الطبقية في المجتمع، وهكذا تكون أول مراحل الطلاق بين السياسي والديني عند ظهور أول خطاب سياسي مرن أو براغماتي، وذلك لتجاوز بعض الخطوط الحمراء في المقدس السياسي، فالصراع مع الخارج يتطلب خطابًا مختلفًا عن الخطاب المقدس الموجه للداخل، وتعد هذه أول مراحل الصراع داخل السلطة في المجتمع، وينتج عنها ظهور مختلف نوعًا ما لوجه السلطة، وبالتالي ينتقل المجتمع إلى طور آخر في مراحل تشكل السلطة في المجتمعات التقليدية وتعد هذه المرحلة أخطر مراحل التطور في مظاهر السلطة، وفي داخلها تبدأ مراسم العمل من أجل إيجاد البديل المقنع للخطاب المقدس في مسألة إحكام القبضة على المجتمع، وتواجه عادة السلطة عدة صعوبات في الأمر، فالأمر يحتاج إلى عقول غير عادية من أجل سلامة الانتقال من مرحلة إلى أخرى.

بإيجاز شديد حاولت تسليط الضوء على فلسفة مكيافيلي في مفهوم الدولة ، حيث أكمل المهمة من بعده رموز المراحل التالية وهم: فولتير ومنتسكيو وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم من المفكرين التنويريين الليبراليين. لكن يبقى ميكافيلي إلى الأبد نقطة تحول مهمة في تاريخ الفكر السياسي في العالم سواء اختلفنا معه او اتفقنا.

.(د.ميرنا داود،استاذة في جامعة كاليفورنيا).

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما