مباشر

عاجل

راديو اينوما

ositcom-web-development-in-lebanon

منصات التواصل الاجتماعي بين المطرقة والسندان!

30-11-2022

آفــاق

|

اينوما

الكاتب: د. ميرنا داوود

وصف بعض المفكرين شبكات التواصل الاجتماعي "بالمنصات الخطرة" حتى اصبحت كلازمة تتردد سياسياً وأخلاقياً وثقافياً، كلما أتيحت فرصة نقد "ثقافة" شبكات التواصل الاجتماعي وأربابها. لكن يبدو أن "هؤلاء الحمقى" ومع مرور الوقت أصبحوا يدركون جيداً أهدافهم ويعرفون جيداً أصدقاءهم وأعداءهم ، وبالتالي تحولوا إلى جيوش منظمة من "زارعي الفتن".
يسود الفضاء الإعلامي والثقافي على المستوى السياسي والفكري ظاهرة من الفوضى الأخلاقية العارمة التي تكاد أن تتحول وباسم الحرية إلى حركات موجهة لترسيخ القيم الفاسدة وتستميت في الدفاع عنها وإقصاء قيم أخرى ومحاصرتها، كل ذلك باسم "الديمقراطية" و"حرية الرأي" و"حرية التعبير".
إن الخلل الأخلاقي والسياسي والثقافي المنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي بصورة عامة يمكن أن نجد له تفسيراً في التعميم والتوزيع "الفجائي" للثورات التكنولوجية في المجتمعات المتخلفة والنامية ، لقد تحول سلوك هذه المنصات الإفتراضية وفي فترة قصير جداً الى ثقافة شعبية وقد حصل ذلك في ظل غياب توزيع القيم الثقافية والفلسفية الضرورية لمثل هذه الحالة الحضارية "الطارئة" الخطيرة.
لا ثورة تكنولوجية إيجابية في غياب ثورة ثقافية موازية، ولا ديمقراطية في الإعلام من دون ثقافة ديمقراطية سياسياً واجتماعياً في الواقع اليومي المعاش ، ثقافة قادرة أن تحمي القيم الإنسانية وتحمي حرية الفرد من جهله في أحيان كثيرة ،فالجاهل يفعل بنفسه ما لا يقدر أن يفعله عدوه به. كما إن إستخدام شبكات التواصل الاجتماعي في غياب ثقافة الاعتراف والاختلاف والتعدد هو انتحار من نوع آخر، انتحار جماعي.
مما لا شك فيه أن الديمقراطية المفتوحة من دون ضوابط قد تعود بالأذى على مجتمعات لم تعرف ولم تمارس يوماً ما ثقافة الرأي الحر والإنفتاح السياسي والإعلامي والديني في حياتها اليومية، فحرية التعبير ليست الفوضى لأن الحرية دون وعي ضياع ونفق مظلم لا نهاية له، والديمقراطية ليست اضطهاد ومصادرة الرأي الأخر، ولا تعني البذاءة والإسفاف دون روادع وضوابط اخلاقية تحكمها.
في البدء كان لشبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي والشرق عموماً بعداً إيجابيّأً ، حيث استثمرت في التعبير عن الرأي والنقد البناء وتبادل المعارف والخبرات ، وبموجبها تنفس المثقفون والنخب السياسية أيضاً ووجدوا في هذه المنصات مجالاً للمعرفة والأخبار والتعبير عن آرائهم والدفاع عن أفكارهم وتطلعاتهم ضد منظومات قديمة مهترئة، اجتماعية كانت أم دينية أو قومية.
لقد تغير الأمر وبسرعة مدهشة حيث تحول هذا الفضاء وفي فترة قياسية، من منبر للأصوات التنويرية والمتنورة التي استثمرت فيه في البداية إلى منصة لثقافة العنف والتكفير والتخوين والإقصاء، إنها لمفارقة عجيبة أن تتحول شبكات التواصل الاجتماعي والتي هي نتاج التكنولوجيا صنيعة المجتمعات العلمانية والديمقراطية الغربية ، أداة بين أيدي قوى التخلّف والكراهية التي لا تعترف بقيم حقوق الإنسان ولا تؤمن بتعدد الأديان والثقافات والأعراق ، بل والأكثر غرابة أن تستعمل هذه التكنولوجيا لتهاجم هذا الغرب وكل من يختلف معها في الفكر والعقيدة وتنظيم أعمال الخراب والهدم والقتل في بنية الأمم صانعة هذه التكنولوجيا.
لقد وضعت التكنولوجيا الحديثة الجميع على رقعة واحدة وعلى منصة واحدة في لعبة واحدة ، لكن الكثير من اللاعبين الموجودين في الميدان لا يتقنون قوانين اللعبة أو لا يؤمنون بقوانين اللعبة أصلاً فهناك لاعبون صُنعوا وتكوّنوا داخل مسيرة شعوب تشكلت داخل بنيات الثقافة والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان ، ولاعبون آخرون على الملعب نفسه تكوّنوا في مجتمعات ثقافة القهر والقمع والكراهية والقتل والانتقام.
وبهذا الشكل تحوّلت شبكات التواصل الاجتماعي من منصات للحرية الفردية والجماعية ومن منصات للتواصل والتوعية والإنفتاح، إلى منصات لتجييش البعض ضد البعض الآخر، وإلى منصات لتعميم ثقافة الكراهية والدم بين الشعوب و بين أبناء الشعب الواحد.
وأمام هذا الحضورالخطير لشبكات التواصل الاجتماعي وانتشارها الكبير، تدخل الإنسانية عصراً جديداً وتلامس أفقاً سياسياً وحضارياً غير مسبوق، سمته الفوضى السياسية والإجتماعية.
فإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية كالجريدة الورقية والراديو والتلفزيون والهاتف الثابت أنتجت ثقافة حوار، فإن شبكات التواصل الاجتماعي الحداثية أنتجت لنا ما يمكن أن نسميه "ثقافة الفوضى المنظمة"  وهي ظاهرة "الفوضى" في الديمقراطية، أي مرض الديمقراطية المعاصر، بما في ذلك الفوضى في القيم والتحاور، فإذا كانت الديمقراطية هي الجانب المضيء في الإنسانية، وهي مكسب وصل إليه الإنسان بعد نضال طويل سياسي وحضاري وفكري وجمالي، فإن "الفوضى المنظمة" هي الوصول إلى "سلطة" الرأي بمحض الصدفة ، ومن دون تراكم في الثقافة والسياسة واحترام الأخر ، وإذا كانت تقاليد الديمقراطية تشترط توفر الإيمان بحزمة من القيم الإنسانية المشتركة، وعلى رأسها مبدأ "أدافع عن رأيي كما أدافع عن حقك في الدفاع عن رأيك" ، فإن الفوضى المنظمة تسمح بتورط الجميع في لعبة يجهل اللاعبون فيها قوانينها وإذا عرفوا تلك القوانين فإنهم لا يحترمونها!!
وقد عمّت شبكات وسائل التواصل الاجتماعي جيوش الذباب الإلكتروني المشكّل من الغوغاء التي تحكم أو تستولي على الفضاء باسم الغالبية وتمارس العنف الإلكتروني الأخلاقي والفكري والديني والذي لا يفتأ أن ينتقل إلى عنف واقعي من خلال السباب والشتيمة ومصادرة الرأي الأخر عن طريق البذاءة لذلك فنحن أمام معركة حقيقية .

ositcom-web-development-in-lebanon

مباشر

عاجل

راديو اينوما