19-12-2025
مقالات مختارة
أنطوان العويط
يبرز في الكواليس الرسميّة انطباعٌ إيجابيّ حذر إزاء التحوّل الذي طرأ على طريقة تعاطي واشنطن مع الملف اللبنانيّ في هذه المرحلة الحسّاسة. فالمقاربة الأميركيّة، شكلاً ومضموناً، تبدو أكثر انتباهاً لتعقيدات الواقع اللبنانيّ وخصوصيّاته، وأقل ميلاً إلى الضغوط الخشنة أو المعالجات الجامدة، لصالح مرونةٍ سياسيّة تقوم على منطق الاحتواء والتدرّج، من دون أن يعني ذلك انقلاباً في الأولويّات أو التوجّهات.
تظهّر ذلك بوضوح في أعقاب الخطوة اللبنانيّة الأخيرة، والمتمثّلة بالانتقال إلى المفاوضات مع إسرائيل ونقلها من إطارها التقنيّ - الأمنيّ إلى مستوى سياسيّ صريح، تُرجمت بتعيين شخصيّة مدنيّة على رأس الوفد المفاوض، في إشارة بالغة الدلالة إلى استعادة الدولة دورها السياسيّ المباشر في إدارة هذا المسار الدقيق.
يُتوقَّع، من دون إفراط في التفاؤل، أن تفتح هذه الخطوة لاحقاً، ومع تقدّم في نتائج المسار التفاوضيّ بالتحديد، نافذةً ضيّقة لإجراءات خجولة من الجانب الإسرائيليّ، بوصفها إشارات حسن نيّة أكثر منها تحوّلاً شاملاً في المقاربة أو السياسات.
آنيّاً، تواصل واشنطن ممارسة ضغوطها لمنع انزلاق الوضع نحو مواجهة عسكريّة واسعة، وسط حديثٍ متزايد عن مسعى لإتاحة هامشٍ زمنيّ إضافيّ لاستكمال خطّة حصر السلاح بتمديدٍ محدود يتجاوز عتبة العام الجديد. وبطبيعة الحال، يظلّ جنوب الليطاني في صلب الاهتمام الأميركيّ، بوصفه منطقةً يُطلب أن تكون خالية بالكامل من أيّ سلاح أو بنى عسكريّة لـ"حزب الله". أمّا شمال الليطاني، فيُطرح ضمن سياق تتقدّم فيه فكرة "احتواء السلاح" وتحييده بدل حصره أو نزعه، وذلك عبر تعهّدات واضحة وصريحة وعلنيّة من الجهات المعنيّة، وآليّات رقابيّة صارمة من شأنها أن تحدّ عمليّاً من القدرة على استخدامه.
في خلفيّة هذا المشهد، تبقى المفاوضات الأداة الوحيدة المتاحة لتهدئة العلاقة اللبنانيّة - الإسرائيليّة وضبط إيقاعها، في ظلّ كلام عن تسويق أفكار أميركيّة متكاملة لإدارة جنوب الليطاني وتثبيت وقف النار، تبقى مشروطة بتوازن دقيق بين الواقعيّة السياسيّة والحذر من الرهانات الكبيرة.
الطروحات تمثّل حزمة متكاملة من الترتيبات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، ترتكز على ضمانات أميركيّة جدّية لوقف الاعتداءات الإسرائيليّة، مقابل طيّ نهائيّ لملف جنوب الليطاني. وتشمل دعماً عسكريّاً فعليّاً للجيش لتمكينه من الانتشار الكامل وسدّ أي فراغ أمني بعد انسحاب "اليونيفيل"، مع حديث قد يتمّ تداوله وتأكيده لاحقاً ويتعلّق بإشراك مزيد من المدنيين اللبنانيين في لجنة الميكانيزم لتأمين غطاء سياسيّ وطائفيّ للترتيبات. كما تتضمّن الأفكار تسليم أو ترحيل الأسلحة الثقيلة والدقيقة شمال الليطاني إلى خارج لبنان، وإطلاق عمليّة إعادة الإعمار فور سريان الاتفاق، إلى جانب استئناف التنقيب عن النفط والغاز، والالتزام باتفاقيّة الهدنة لعام 1949 كحلّ مرحليّ بديل عن التطبيع، تمهيداً لمرحلة متقدّمة من المفاوضات تهدف إلى التوصّل إلى سلام دائم.
هذه الصورة "الورديّة" التي يجري تسويقها لا تعني، في أيّ حال، إلغاء الاحتمالات التفجيريّة أو طيّ صفحة الحرب والعبور النهائيّ إلى ضفّة المفاوضات. فالمشهد، في جوهره، ليس انتقالاً من مسار إلى آخر، بل سباق محموم بين مسارين متوازيين، بين حرب تمّ تأجيلها لفترة لكن لا تزال أدواتها حاضرة، ودبلوماسيّة تعمل تحت ضغط الوقت وتعقيدات الإقليم وتشابك الشروط.
من جهّة أولى، تبدو واشنطن مقتنعة بضرورة منح لبنان فرصة جديدة، لكنّها فسحة مشروطة لا تُمنح مجاناً ولا تُترجم بكسب الوقت على حساب الملفات الجوهريّة. فالولايات المتحدة لا تُخفي أنّ ملف السلاح يتقدّم على سواه من العناوين، ولا تقبل بفصله عن سلّة الشروط التكامليّة الأخرى. ومع ذلك، يبقى الهدف الأميركيّ الأبعد هو دفع لبنان إلى سلوك طريق السلام، لا بوصفه خياراً نظريّاً، بل عبر مفاوضات مباشرة تُنهي حال الاشتباك المفتوح وتعيد رسم قواعد اللعبة.
أمّا في حال تعثّر المسار، فإنّ إمكانيّة تنفيذ عمليّة عسكريّة مشتركة بين واشنطن وإسرائيل، تُستهدف خلالها الأنفاق التي تُخفي ما تبقّى من صواريخ باليستيّة لدى الحزب، تبقى واردة. وقد كشف ذلك بوضوح وعلناً السيناتور الأميركيّ ليندسي غراهام.
في المقابل، ليس ثابتاً على الإطلاق ما سيكون عليه موقف "حزب الله"، وما إذا كانت تل أبيب مستعدّة للتراجع عن أولويّاتها المعلنة، وفي طليعتها نزع السلاح جنوب الليطاني وشماله، بالتوازي مع انتشار الجيش اللبناني، وصولاً إلى انسحاب إسرائيليّ مشروط بقيام منطقة عازلة بمواصفاتها الصارمة وقيودها الأمنيّة. هنا، لا تزال الرؤية الإسرائيليّة محكومة بمنطق الوقائع الميدانيّة قبل أيّ تسوية سياسيّة.
وإذا كانت واشنطن قد نجحت، حتى الآن، في فرض هدنة سياسيّة - تفاوضيّة حالت دون الانزلاق إلى حرب شاملة قبل نهاية هذا العام، فإنّ هذه "الهدنة" تبقى مؤقّتة، هشّة، ومعلّقة بالكامل على مآلات المفاوضات الجارية.
ولا يمكن، في هذا السياق، تجاهل التقاطع الجوهريّ بين الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، على الدفع بلبنان نحو واقع جديد، يكون مدخلاً لإنتاج تسوية سياسيّة مختلفة. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فتبقى "العمليّة الجراحيّة" خياراً متقدّماً على الطاولة، فيما تتصاعد المخاوف الأميركيّة من أن يؤدّي السيناريو الأسوأ إلى تقويض ما تبقّى من ركائز الدولة اللبنانيّة الضعيفة، وإشعال اضطرابات داخليّة قد تتقاطع مع الفوضى السوريّة المجاورة. من هنا، تسعى واشنطن إلى رسم خطوط حمر واضحة أمام أيّ عمليّة عسكريّة إسرائيليّة، ولا سيّما لجهة منع استهداف البنى التحتيّة للدولة.
وعلى هذه الخلفيّة، تأتي زيارة نتنياهو المرتقبة إلى واشنطن قبل نهاية الشهر بوصفها محطة مفصليّة، ستحدّد الاتجاهات الكبرى، وتكشف بوضوح مآل السباق القائم: هل تنتصر الدبلوماسيّة وتُفرض التسوية، أم تتقدّم الحرب من جديد لتعيد خلط الأوراق على وقع المأساة؟
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
حوار افتراضيّ على ضفّتَي نهر أيلول اللبنانيّ
مقالات مختارة
لماذا لا تتشكّل معارضة وطنية؟
مقالات مختارة
بعد سوريا… ايران تخسر لبنان والعراق؟
مقالات مختارة
شيء يفوق الخيال
أبرز الأخبار