10-12-2025
مقالات مختارة
انطوان العويط
كاتب لبناني
أنطوان العويط
لم تعد التجربة اللبنانيّة في الأشهر التسعة الماضية مجرّد محطة عابرة في سجلّ الأزمات، بل تحوّلت إلى مرآة كاشفة لعطب بنيويّ عميق يشلّ المبادرات الواقعيّة في جوهرها. فقد جرّب المسؤولون ابتكار المخارج مرارًا، وصاغوا المبادئ الأوّلية لها، لكن النتيجة كانت واحدة، وتجسّدت في تلاشي كلّ رهانٍ على قدرة السياقات التقليديّة في إنتاج معالجات حقيقيّة وفعّالة. فجميع المحاولات التي جرت بعيدًا عن الأضواء، تحوّلت إلى طقوسٍ شكليّة تُعاد وتُكرّر وتُستنسخ بلا طائل، من دون أن تمسّ جوهر المعضلة: سلاح "حزب الله"، الذي بات العنصر المحوريّ في كلّ معادلةٍ مطروحة.
هنا بالتحديد بدأ التحوّل الأميركي يتّخذ شكله الكامل. فواشنطن، استنادًا إلى قراءة معمّقة صاغتها مراكز القرار داخل الإدارة، خلصت إلى أنّ لبنان عاجز عن إنتاج الحلّ من داخله، وأنّ المقاربة النمطيّة التي حكمت مرحلة ما بعد عام 2006 قد استُنفدت تمامًا. وعليه، اعتمدت خارطة جديدة، تُحصر فيها تناول المأزق عبر مفاوضات مباشرة بين بيروت وتل أبيب، تحت سقف سياسيّ أميركيّ متشدّد، وبإشراف محكم تتكامل فيه الأدوات والاتجاهات.
التقط لبنان الرسميّ تلك الإشارات الواضحة، وهو الذي بات مقتنعًا بموجبات وضرورات التفاوض المباشر مع إسرائيل. فلا سبيل لإنهاء الاحتلال الإسرائيليّ إلاّ من خلالها، بعدما سقط توازن الردع وتراجعت فعاليّته إلى حدّ العدم. كما أنّ الذهاب إلى التفاوض يُمثّل الخيار الوحيد المتبقّي لمنع اندلاع حرب جديدة ومدمّرة.
وكان أن دعا لبنان إلى التفاوض مرّة ومرّتين وثلاث، بعدما تلمّس بدقة أنّ محاولة إسقاط اتفاق 27 تشرين الثاني 2024 باتت على وشك الاكتمال، وأنّ القرار 1701 فقد عمليًّا مفاعيله وتبدّدت أدبياته المتعلّقة بتطبيقه. وزاد المشهد سوادًا مع إنهاء مهمّة "اليونيفيل"، التي شكّلت طوال السنوات الماضية مظلّةً وإن هشّة، ففقدت القدرة على منع الانزلاق أو كبح تدحرج الأحداث نحو مواجهة مفتوحة... إلى أن أتاه الجواب الإسرائيليّ بالقبول، لتُستأنف بين الجانبين أوّل محادثات مباشرة على المستوى المدنيّ مع العسكريّ منذ عقود.
لكنّ هذه المحادثات، مهما بلغت أهميّتها، لا يمكن اختزالها كبديل للقرار اللبنانيّ المطلوب في مواجهة الوضع المسلّح لـ "حزب الله"؛ فذلك يظلّ صلب الأزمة ومفتاح أي تسوية، سواء أكانت قريبة أو بعيدة.
في الواقع، تندفع واشنطن اليوم نحو صياغة ترتيبات أمنيّة جديدة، تبدأ من جنوب الليطاني، الذي يُراد له أن يتحوّل إلى منطقة منزوعة السلاح، وقد تصل حتّى نهر الأوّلي، في محاولة لإخماد النار المفتوحة على الحدود وما هو أبعد منها، وإقامة جدار ردعيّ يمنع الشرارة الكبرى التي قد تمتدّ من لبنان إلى ساحات التوتّر الممكنة في الإقليم، فتُربك هندسة النفوذ التي تسعى الإدارة الأميركيّة إلى تثبيتها. أمّا شمالًا، فقد تدخل المنطقة مرحلة "احتواء السلاح"، وهو مفهوم يتجاوز معجميّْ "النزع" و"الحصر"، ليعيد صياغة العلاقة بين السلاح والدولة.
وفق هذه المقاربة، يبقى السلاح "مكتومًا ومجمَّدًا" ضمن معايير وضوابط صارمة تجعل استخدامه مستحيلًا، إلى أن تنضج تسوية أشمل وأعمق. إنّها معادلة تجمع بين الواقعيّة وممارسة الضغط، تحفظ ماء وجه الجميع، وتُبقي الباب مفتوحًا أمام حلّ طويل المدى.
هذا المسار بدأ، وقد يتقدّم ويتسارع، في انتظار نتائج زيارة رئيس الحكومة الإسرائيليّة إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، أيّامًا قبل نهاية هذا العام، وأيضًا في انتظار زيارة مرتقبة ومرجّحة للرئيس جوزاف عون إلى واشنطن مطلع العام الجديد، ولقائه الأوّل مع الرئيس ترامب.
غير أنّ هذا المشهد لا يشكّل مدعاة للطمأنينة، بل يحمل في طياته قلقًا ثقيلاً، نظرًا لطموحات ورغبات إسرائيل التي ترى في اللحظة الراهنة فرصة ذهبيّة لاجتثاث النفوذ الإيرانيّ من لبنان، وإخراج "حزب الله" من المعادلة عبر نزع سلاحه، وقطع شرايين تمويله وارتباطاته.
داخل الإدارة الأميركيّة نفسها، تتعايش في الآن عينه مقاربتان متعارضتان تشدّان القرار في اتجاهين متناقضين.
الأوّل، يدعمه لوبي اليمين الإسرائيليّ، إلى جانب مجموعة من صقور البنتاغون والأمن القوميّ، ويدعو إلى الحسم السريع عبر "الضربة القاضية" التي تستهدف البنية الصاروخيّة للحزب قبل أن تستعيد إيران تماسكها في الإقليم. هذا الفريق يرى أن الزمن ليس صديقًا لواشنطن، وأنّ كلّ يوم من التأخير يمنح طهران فرصة للعودة.
أمّا المشروعُ الثاني، فهو أكثرُ تروّيًا، ويرى أنّ تسجيل نقاط متدرّجة بلا حرب، أجدى وأنجع، لأنّ لبنان بنيةٌ ضعيفة قد تنهار تحت وطأة أيّ ضربة واسعة، فتنفتح أبوابُ الفوضى على مصاريعها، وتتحوّل إلى مهرجان نفوذٍ متجدّد لطهران، بما يهدّد بنسف الهندسة الأمنيّة الجديدة في سوريا، ويُجهِض ما تحقّق حتى الآن من مكاسبٍ سياسيّة وميدانيّة، فيما تأثير طهران في المنطقة يشهد تراجعًا دراماتيكيَّا، وبالتالي بات عامل الوقت عبئاً عليها لا رصيداً.
في قلب هذه الوضعيّة، تبدو واشنطن وكأنّها تتّجه نحو صياغة توليفة دقيقة، تضغط سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا لاحتواء "حزب الله"، مع رسم حدود حركته عبر مسار تفاوضيّ محكَم، في انتظار اللحظة الإقليميّة الحاسمة التي تتيح إبرام تسوية شاملة. وإلى أن تنضج اللحظة، يقف لبنان على جسرٍ متأرجح يمتدّ بين أفق مستحيل وهو قاتل، ومستقبلٍ ممكنٍ لكنّه واعد.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
حوار افتراضيّ على ضفّتَي نهر أيلول اللبنانيّ
مقالات مختارة
لماذا لا تتشكّل معارضة وطنية؟
مقالات مختارة
بعد سوريا… ايران تخسر لبنان والعراق؟
مقالات مختارة
شيء يفوق الخيال
مقالات مختارة
خواء انتصارات حزب الله أو الهزيمة النكراء
أبرز الأخبار